التاريخ اليمني الحديث مليء بالحوارات والحكومات الائتلافية ومجالس الرئاسة والحروب أيضاً. واللافت إن هذه الحروب تعقب كل حوار وعملية تسوية عادة. آخر هذه النماذج هي حرب 1994 التي جاءت بعد حكومة ائتلافية موسعة وتوقيع وثيقة العهد والاتفاق في فبراير 1994، التي أقرت الكثير من المطالب المقترحة حالياً لحل المشكلة اليمنية، مثل الحكم المحلي اللامركزي والتمثيل النيابي المزدوج بمجلس نواب يقوم على التصويت المباشر ومجلس شورى يمثل إدارات الحكم المحلي بالتساوي لمعالجة مشكلة عدم التوازن السكاني بين الجنوب والشمال المكتظ سكانياً. لم تمنع وثيقة العهد والاتفاق من اندلاع الحرب بعد ثلاثة أشهر، بسبب انعدام الثقة بين الطرفين جراء الأزمة الطويلة التي أودت بحياة عشرات القيادات الإشتراكية من دون تحقيق أو مسائلة قانونية تعيد بناء الثقة المطلوبة آنذاك. والسؤال المطروح الآن: هل سيشهد الحوار الذي ينعقد اليوم المصير ذاته، وبخاصة مع غياب أي إجراءات لإعادة بناء الثقة بين الأطراف اليمنية المتصارعة؟
حل موعد الحوار والأجواء السياسية ملبدة بغيوم الحرب، وسفن محملة بأسلحة من إيران وتركيا تتوارد أخبارها. كما تشي حركة الجماعات المسلحة الكثيفة بحرب مرتقبة أكثر من حوار وطني مرتقب، وهذا كله يعود لغياب الأجواء المهيئة للحوار كما كان يقتضي الأمر.
وتتصدر أجندة الحوار قضية الجنوب ومن ثم صعده. كما تتضمن قضايا أخرى، مثل إقرار طبيعة نظام الدولة ـ رئاسي أم برلماني، الحكم المحلي ومطلب تقسيم اليمن فيدرالياً، وكتابة الدستور. وستنتهي عملية الحوار بعد ستة أشهر كما هو معلن. تحتاج هذه المهمة الجسيمة في بلد غارق في الانقسامات والصراعات إلى خطوات تهيئة من قبل السلطة التنفيذية، تهدف إلى إعادة أجواء الثقة بين أطراف الحوار ممن لم تشملهم المبادرة الخليجية، مثل الحراك الجنوبي، الحوثيون - وهم جماعة زيدية شيعية، شباب الثورة المستقلين، وشباب الأحزاب المستبعدين من دائرة صنع القرار في أحزابهم لصالح القيادات المتقدمة بالسن في الأحزاب اليمنية الرئيسية (المؤتمر والإصلاح والإشتراكي والناصري).
قدمت اللجنة الفنية للحوار المسؤولة عن الإعداد والترتيب للحوار قائمة من عشرين نقطة لرئيس الجمهورية تطالبه بتنفيذها لتهيئة البلاد للحوار. سلمت اللجنة هذه القائمة في بداية عملها في شهر سبتمبر الماضي. وبعد مرور أكثر من ستة شهور لم تطبق أي من هذه النقاط. تتعلق معظم هذه النقاط بالجنوب وحل المظالم المترتبة عن حرب 1994، مثل الاعتذار وإعادة الموظفين والعسكريين الذين تمت إحالتهم إلى التقاعد بشكل تعسفي جراء تمركز مؤسسات الدولة في صنعاء وما تبعها من إلغاء لمؤسسات الدولة الجنوبية. وكان الشمال يعتمد النظام الرأسمالي بينما أعتمد الجنوب النظام الشيوعي، مما يفسر العدد الهائل لموظفي الدولة، حيث بلغ عدد المسرحين ربع مليون من أصل مليوني شخص هم إجمالي سكان الجنوب آنذاك. وكذلك طالبت اللجنة الفنية بحل قضية أراضي عدن التي تم توزيعها كغنيمة حرب بين المنتصرين، واستفز هذا الانتهاك الواسع للأراضي التي كانت ملكاً للدولة سكان المدينة.
وكذلك تضمنت القائمة عدة نقاط تتعلق بحرب صعده، ومن أهمها وقف التأجيج المذهبي في مناطق الصراع. كما شددت اللجنة على إجراءات العدالة الانتقالية لتعويض ضحايا الحروب اليمنية ووقف دائرة الحروب الثأرية. وتمت الاستجابة لهذا المطلب بصياغة قانون للعدالة الانتقالية لم يتطلب كشف الحقائق حول ماجرى من جرائم وبالتالي لم يوضح من هو المجرم ومن الضحية. واكتفى القانون بإلزام تقديم تعويضات مالية للضحايا.
يجد الرئيس عبدربه منصور صعوبة حقيقية في تلبية الكثير من هذه المطالب لأسباب عدة، أبرزها إنه كان جزءاً أساسياً في القيادة العسكرية في حرب 1994، حيث تولى قيادة القوات الجنوبية التي دخلت مدينة عدن في 7 يوليو 1994 يوم انتهاء الحرب وإعلان انتصار قوات "الشرعية" كما كانت تسمى آنذاك. كما إنه محاط بشبكة واسعة من أصحاب المصالح والنفوذ في صنعاء الذين لن يقبلوا بالمساءلة القانونية أو الإضرار بمصالحهم، بما في ذلك قضية الأراضي التي استولوا عليها أو غيرها من مصالح اقتصادية متعلقة بنهب ثروات الدولة اليمنية، مثل حصص البترول والغاز الموزعة بين مراكز النفوذ القبلي والعسكري في اليمن، ويقع معظم مخزون هذه الثروات في المحافظات الجنوبية.
وبدلاً من إجراءات تهدئة قبل الحوار، اندلعت أحداث العنف في المحافظات الجنوبية قبل أقل من شهر من موعد انطلاق الحوار. جاءت هذه الأحداث كرد فعل لحفل استفزازي في مدينة عدن قام به حزب الإصلاح - الذي يضم حزب الإخوان المسلمين وتحالفات قبلية - ومناصري عبدربه منصور تحت إشراف أخيه ناصر منصور في يوم 21 فبراير للاحتفال بمرور عام على انتخابه رئيساً. وكان عبدربه منصور مرشحاً توافقياً بين حزب الرئيس السابق علي عبدالله صالح وأحزاب المعارضة، وتضمنت قائمة الانتخابات مرشحاً واحداً، مما يتعذر وصفها بالانتخابات أصلاً. وتزامن مكان وتوقيت الحفل مع فعالية للحراك الجنوبي. ورفض الطرفان التنازل عن فعاليته، مما تسبب في مواجهات. وتدخلت قوات الأمن بأدواتها القمعية المعتادة وقتلت 3 من الحراك الجنوبي وجرحت العشرات. اندلعت بعد ذلك أعمال عنف واسعة جراء الاحتقان الشديد الذي تعيشه المحافظات الجنوبية منذ سنوات طويلة.
يعبر رئيس الجمهورية ذو الأصول الجنوبية عن حال انقسام الجنوب بين الحراك الجنوبي المطالب بالانفصال أو الفيدرالية من جهة والجنوب الذي يفضل معالجة قضية الجنوب حقوقياً وسياسياً ضمن إطار الدولة الحالي. كما يمثل الرئيس هادي هيمنة السلطة المركزية بتحالفاتها السياسية المنتصرة في حرب 1994. وكذلك الحال بالنسبة لحزب الإصلاح وهو تحالف ديني – قبلي يضم جماعة الإخوان المسلمين. وكان الحزب رأس حربة في هذه الحرب التي جاءت امتداداً للحرب الجهادية الإسلامية ضد الشيوعية، فشاركت فصائل مسلحة من الحزب إلى جانب سلطة صنعاء ضد الحزب الإشتراكي الذي كان يمثل سلطة دولة اليمن الجنوبي سابقاً.
اعتبر الحراك الجنوبي إقامة الحفل في عدن استفزازاً للجنوبيين لأنه يمثل السلطة المركزية للدولة التي يرفضونها بالرغم من مشاركة كوادر جنوبية من حزب الإصلاح فيه، وخصوصاً إن منظمي الحفل أصروا على اختيار موعد ومكان للحفل بالتزامن مع حفل ينظمه الحراك. أخطأ حزب الإصلاح وهو في الحكومة الآن ويرأس وزارة الداخلية عندما لم يستشعر حساسية استفزاز الحراك بإقامة حفل مدعوم من قبل السلطة الأمنية والعسكرية. وكان عليه القيام بخطوات جدية للتخفيف من حال الاحتقان الجنوبي، كما كان على الحكومة القيام بإجراءات لاستعادة ثقة الجنوبيين، مثل سحب الثكنات العسكرية من داخل المدن وإطلاق سراح المعتقلين من الحراك الجنوبي. لم يسفر عن أحداث هذه المواجهة أي معالجة حقيقية، سوى بعض وعود التهدئة وزيارة الرئيس للقاء قيادات جنوبية في الداخل.
رضخت قيادات الحراك الجنوبي في الخارج للضغط الدولي الذي أصر على مشاركتها في الحوار واجتمعت في دبي بدعوة من الأمم المتحدة في لقاء حضره المبعوث الأممي جمال بن عمر. حضرت هذا الاجتماع قيادات رئيسية من الحراك الجنوبي المقيمة في الخارج مثل حيدر العطاس وعلي ناصر محمد وعبد الرحمن الجفري وغيرهم ممن يعرفون بالتيار الفيدرالي داخل الحراك الجنوبي، بينما تغيب عنه التيار المتشدد الذي يمثله علي سالم البيض الذى اكتفى برسالة أعلن فيها رفضه للحوار وطالب بالتدخل الدولي لحماية الجنوبيين، مؤكداً إن سقف المطالب ليس أقل من "الاستقلال" وهو ما صار يعرف بفك الارتباط.
تمخض الاجتماع عن بيان أكد فيه حرص المجتمعين على الحوار والعمل السلمي لحل القضية الجنوبية من دون إلتزام بالمشاركة في مؤتمر الحوار. وعلق على ذلك جمال بن عمر قائلاً إن جميع الاحتمالات لا زالت واردة. ترافق هذا الاجتماع في خارج اليمن مع تسريبات في الداخل حول احتمال إصدار قرارات رئاسية تقضي بتقسيم اليمن لمجموعات فيدرالية، ربما كخطوة سياسية تحاول إقناع فصائل الحراك بالمشاركة.
تأتي مشاركة الجنوب في الحوار تحت ضغط خارجي وعلى صدى أحداث عنف واحتقان شديدة. وليس الحال أحسن على صعيد مشكلة صعده المذهبية بامتداداتها الإقليمية الأكثر وضوحاً ومدعاة للقلق. ففي وقت سابق نجح الحوثيون في إقامة حفل يوم الغدير في معقل قبيلة حاشد الحاكمة والتي تنتمي إليها معظم القيادات العسكرية والقبلية المتحكمة بالبلاد. ثم احتفلوا بيوم المولد النبوي في سنحان وهي مركز القبيلة الحاشدية التي ينتمي لها عدو الحوثيين القائد العسكري علي محسن القاضي. كشف الحفلان عن تهديد حقيقي للنفوذ السعودي في تلك المناطق التي تنتمي لها النخبة السياسية اليمنية الحاكمة وعبرا عن إخفاق جسيم لهذه النخبة في بسط النفوذ السعودي حتى في مناطق انتمائهم القبلي. لذا ليس من الغريب أن يكون للحفلين أصداء مدوية لدى الأسرة المالكة السعودية المنزعجة، مما دفع نخبة صنعاء الموالية للسعودية في التباري في استعراض قوتها وصرامتها في التعامل مع الأمر.
وهذا يفسر التصعيد الحكومي لقضية السفينة الإيرانية المحملة باسلحة عندما رفعت الأمر إلى مجلس الأمن الذي بعث بلجنة للتحقيق. وجدير بالذكر إنه سبق ووصلت سفينة أسلحة تركية إلى اليمن لكن الحكومة لم تتخذ أي إجراء. هذا يتناسب مع موقف الرئيس عبدربه منصور الذي يسعى إلى تقديم نفسه كطرف متشدد وصارم تجاه التدخل الإيراني. فالسعودية تصر على التمسك ببعض حلفائها الذين يهددون سلطة الرئيس منصور المطلقة في اليمن بسبب خبرتهم في التعامل مع حلفاء إيران داخل اليمن، وعلى رأسهم القائد العسكري علي محسن القاضي.
رفض علي محسن الانصياع لقرارات الرئيس الأخيرة في يناير والتي تتعلق بهيكلة الجيش، إذ تم حل قوات الفرقة الأولى مدرع بقيادة علي محسن وكذلك حل قوات الحرس الجمهوري بقيادة أحمد علي. كما تمت إعادة تقسيم الجيش بشكل مختلف. كان يفترض أن يعقب هذه القرارات قرارات أخرى لاحقة تشمل أسماء قيادات ألوية الجيش الجديدة بعد التقسيم. ولم يرفض علي محسن التنحي عن منصبه فحسب، بل وقدم لائحة بأسماء القيادات العسكرية التي ينبغي تعيينها، مما أغضب الرئيس عبدربه منصور الذي عجز عن استكمال قراراته.
لا يستطيع الرئيس منصور تحدي رجل السعودية القوي في اليمن علي محسن القاضي من دون موافقتها. فمثل هذا التحدي قد يطيح به من منصب الرئاسة بمجرد انتهاء الفترة الانتقالية في العام القادم. ولكن السفير الأميركي لوح بإمكانية تمديدها بينما صرح رئيس حزب الإصلاح - وهو أكبر الأحزاب اليمنية - إنه قد يكون عبدربه منصور مرشح حزبه القادم في انتخابات عام 2014.
الأزمة المكتومة بين علي محسن والرئيس منصور قد تكون لها تداعيات خطيرة لو استمرت. ففي تصريحات أخيرة لعلي محسن أكد فيها إنه لن يخرج من منصبه ملمحاً إن مسألة خروجه لا تتعلق بقرار رئاسي، ومشدداً إنه طالما يستمر التدخل الإيراني في اليمن فهو سيظل في منصبه. في المقابل صرح المبعوث الأممي جمال بن عمر إنه لا توجد أزمة من أي نوع والقرارات القادمة ستعلن أسماء القيادات العسكرية الجديدة ولن تتضمن علي محسن القاضي وابن الرئيس السابق أحمد علي. ويبدو هذا التصريح دبلوماسياً أكثر من كونه واقعياً، حيث تأخر إصدار القرارات المكملة للقرار الرئاسي لإعلان أسماء القيادات الجديدة. واللافت أيضاً الزيارة التي قام بها جمال بن عمر إلى دولة قطر التي تدعم علي محسن الحليف العسكري للإخوان، والتي توارد حولها الكثير من الأحاديث، أهمها إن أمير قطر رفض رفع دعم بلاده عن علي محسن بحكم إنه الحليف العسكري لجماعة الإخوان. وتتماهى هنا السياسة الخارجية لدولة قطر مع السعودية فيما يتعلق بالشأن اليمني باستثناء فوارق بسيطة.
تلقي أحداث العنف في الجنوب الغاضب واحتفالات استعراض القوة الحوثية في الشمال والجيش المنقسم بين مجموعة قيادات عسكرية تضم علي محسن وأحمد علي وعبدربه منصور، بالإضافة إلى تداخلات إقليمية معقدة، بظلال كثيفة على الحوار الوطني اليمني الذي ينعقد تحت ضغوط دولية كبيرة تجعل من مسألة انعقاده مسألة إجرائية وصورية أكثر منها مدخلاً حقيقياً لحل المشكلة اليمنية، التي تستدعي قرارات وسياسات طويلة الأمد تتجاوز مبدأ المحاصصات والتسويات الخارجية بين الدول الإقليمية. وكذلك تحتاج إلى سياسات تعالج هموم المواطن اليمني العادية الذي يفتقد إلى العدالة ويعيش في ظل ظروف اقتصادية بالغة الصعوبة تجعل من أي عملية تسوية شديدة الهشاشة لأن أسباب الاحتقان الأجتماعي قائمة من دون معالجة.